سورة الفجر - تفسير تفسير ابن الجوزي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الفجر)


        


قوله تعالى: {والفجر} قال ابن عباس: الفجر: انفجار الظُّلمة عن الصبح، وانفجر الماء: انبجس. قال شيخنا علي بن عبيد الله: الفجر: ضوء النهار إذا انشق عنه الليل، وهو مأخوذ من الانفجار، يقال: انفجر النهر ينفجر انفجاراً: إذا انشق فيه موضع لخروج الماء، ومن هذا سمي الفاجر فاجراً، لأنه خرج عن طاعة الله.
وللمفسرين في المراد بهذا الفجر ستة أقوال.
أحدها: أنه الفجر المعروف الذي هو بدء النهار، قاله عليٌّ رضي الله عنه. وروى أبو صالح عن ابن عباس قال: هو انفجار الصبح كل يوم، وبهذا قال عكرمة، وزيد بن أسلم، والقرظي.
والثاني: صلاة الفجر، رواه عطية عن ابن عباس.
والثالث: النهار كلُّه، فعبَّر عنه بالفجر، لأنه أوله، وروى هذا المعنى أبو نصر عن ابن عباس.
والرابع: أنه فجر يوم النحر خاصة قاله مجاهد.
والخامس: أنه فجر أول يوم من ذي الحجة، قاله الضحاك.
والسادس: أنه أول يوم من المحرم تنفجر منه السنة قاله قتادة.
قوله تعالى: {وليالٍ عشر} فيها أربعة أقوال.
أحدها: أنه عشر ذي الحجة، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وقتادة، والضحاك، والسدي ومقاتل.
والثاني: أنها العشر الأواخر من رمضان، رواه أبو ظبيان عن ابن عباس.
والثالث: العشر الأول من رمضان، قاله الضحاك.
والرابع: العشر الأول من المحرم، قاله يمان بن رئاب.
قوله تعالى: {والشَّفْعِ والوَتْرِ} قرأ حمزة، والكسائي، وخلف {والوِتْر} بكسر الواو، وفتحها الباقون، وهما لغتان. قال الفراء: الكسر لقريش وتميم وأسد، والفتح لأهل الحجاز.
وللمفسرين في {الشفع والوتر} عشرون قولاً.
أحدهما: أن الشفع: يوم عرفة ويوم الأضحى، والوتر: ليلة النحر، رواه أبو أيوب الأنصاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والثاني: يوم النحر، والوتر: يوم عرفة، رواه جابر بن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبه قال ابن عباس، وعكرمة، والضحاك.
والثالث: أن الشفع والوتر: الصلاة، منها الشفع، ومنها الوتر، رواه عمران بن حصين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبه قال قتادة.
والرابع: أن الشفع: الخلق كله، والوتر: الله تعالى، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال مجاهد في رواية مسروق، وأبو صالح.
والخامس: أن الوتر: آدم شفع بزوجته، رواه مجاهد عن ابن عباس.
والسادس: أن الشفع يومان بعد يوم النحر، وهو النفر الأول، والوتر: اليوم الثالث، وهو النفر الأخير، قاله عبد الله ابن الزبير، واستدل بقوله تعالى: {فمن تعجَّل في يومين فلا إثم عليه} [البقرة: 203].
والسابع: أن الشفع: صلاة الغداة، والوتر: صلاة المغرب، حكاه عطية.
والثامن: أن الشفع: الركعتان من صلاة المغرب، والوتر: الركعة الثالثة، قاله أبو العالية، والربيع بن أنس.
والتاسع: أن الشفع والوتر: الخلق كله، منه شفع، ومنه وتر، قاله ابن زيد ومجاهد في رواية.
والعاشر: أنه العدد، منه شفع، ومنه وتر، وهذا والذي قبله مرويان عن الحسن.
والحادي عشر: أن الشفع: عشر ذي الحجة، والوتر: أيام منى الثلاثة، قاله الضحاك.
والثاني عشر: أن الشفع: هو الله، لقوله تعالى: {ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم} [المجادلة: 7] والوتر: هو الله، لقوله تعالى: {قل هو الله أحد}، قاله سفيان بن عيينة.
والثالث عشر: أن الشفع: هو آدم وحواء. والوتر: الله تعالى، قاله مقاتل بن سليمان.
والرابع عشر: أن الشفع: الأيام والليالي، والوتر: اليوم الذي لا ليلة بعده، وهو يوم القيامة، قاله مقاتل بن حيان.
والخامس عشر: الشفع: درجات الجنان، لأنها ثمان، والوتر: دَرَكات النار لأنها سبع، فكأن الله أقسم بالجنة والنار، قاله الحسين بن الفضل.
والسادس عشر: الشفع: تضاد أوصاف المخلوقين بين عِزٍ وذُلٍّ، وقدرة وعجز، وقوة وضعف، وعلم وجهل، وموت وحياة. والوتر: انفراد صفات الله عز وجل: عِزٌّ بلا ذل، وقدرة بلا عجز، وقوة بلا ضعف، وعلم بلا جهل، وحياة بلا موت، قاله أبو بكر الورَّاق.
والسابع عشر: أن الشفع: الصفا والمروة، والوتر: البيت.
والثامن عشر: أن الشفع: مسجد مكة والمدينة، والوتر: بيت المقدس.
والتاسع عشر: أن الشفع: القِرَان بين الحج والتمتع، والوتر: الإفراد.
والعشرون: الشفع: العبادات المتكررة، كالصلاة، والصوم، والزكاة، والوتر: العبادة التي لا تتكرر، وهو الحج، حكى هذه الأقوال الأربعة الثعلبي.
قوله تعالى: {والليل إذا يسر} وقرأ ابن كثير، ويعقوب {يسري} بياءٍ في الوصل والوقف، وافقهما في الوصل نافع وأبو عمرو. وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي {يسر} بغير ياءٍ في الوصل والوقف. قال الفراء، والزجاج: الاختيار حذفها لمشاكلتها لرؤوس الآيات، ولاتِّباع المصحف. وفي قوله تعالى: {والليل إذا يسر} قولان:
أحدهما: أن الفعل له، ثم فيه قولان:
أحدهما: إذا يسري ذاهباً، قاله الجمهور، وهو اختيار الزجاج.
والثاني: إذا يسري مقبلا، قاله قتادة.
والقول الثاني: أن الفعل لغيره، والمعنى: إذا يسري فيه، كما يقال: ليل نائم، أي: ينام فيه، قاله الأخفش، وابن قتيبة.
وفي المراد بهذا الليل ثلاثة أقوال.
أحدها: أنه عام في كل ليلة، وهذا الظاهر.
والثاني: أنه ليلة المزدلفة، وهي ليلة جَمْعٍ: قاله مجاهد وعكرمة.
والثالث: ليلة القدر، حكاه الماوردي.
قوله تعالى: {هل في ذلك} أي: هل في ذلك المذكور من الأمور التي أقسمنا بها {قسم لذي حجر} أي: لذي عقل، وسمي العقل حجْراً، لأنه يحجر صاحبه عن القبيح، وسمي عقلاً، لأنه يعقل عمالا يحسن، وسمي العقل النُّهى، لأنه ينهى عما لا يحل. ومعنى الكلام: أن من كان ذا لبٍّ عَلِم أن ما أقسم الله به من هذه الأشياء، فيه دلائل على توحيد الله وقدرته، فهو حقيق أن يقسم به لدلالته.
وجواب القسم قوله تعالى {إن ربك لبالمرصاد} فاعترض بين القسم وجوابه بقوله تعالى: {ألم تر كيف فعل ربك بعاد} فخوَّف أهل مكة بإهلاك من كان أشدَّ منهم. وقرأ ابن مسعود، وابن يعمر {بعادِ إِرمَ} بكسر الدال من غير تنوين على الإضافة.
وفي {إرم} أربعة أقوال.
أحدها: أنه اسم بلدة، قال الفراء. ولم يُجْرَ {إرم} لأنها اسم بلدة ثم فيها ثلاثة أقوال.
أحدها: أنها دمشق، قاله سعيد بن المسيب، وعكرمة، وخالد الرَّبَعِي.
والثاني: الإسكندرية، قاله محمد بن كعب.
والثالث: أنها مدينة صنعها شداد بن عاد، وهذا قول كعب. وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى.
والقول الثاني: أنه اسم أمة من الأمم، ومعناه: القديمة، قاله مجاهد.
والثالث: أنه قبيلة من قوم عاد، قاله قتادة ومقاتل. قال الزجاج: وإنما لم تنصرف {إرم} لأنها جعلت اسماً للقبيلة ففتحت، وهي في موضع خفض.
والرابع: أنه اسم لجَدِّ عادٍ، لأنه عاد بن عَوْص بن إرم بن سام بن نوح، قاله ابن اسحاق. قال الفراء: فإن كان اسماً لرجل على هذا القول، فإنما ترك إجراؤه، لأنه كالعجمي، قال أبو عبيدة: هما عادان، فالأولى: هي إرم، وهي التي قال الله تعالى: {وأنه أهلك عاداً الأولى} [النجم: 50].
وهل قوم هود عاد الأولى، أم لا؟ فيه قولان قد ذكرناهما في النجم.
وفي قوله تعالى: {إرم ذات العماد} أربعة أقوال.
أحدها: لأنهم كانوا أهل عمد وخيام يطلبون الكلأ حيث كان، ثم يرجعون إلى منازلهم، فلا يقيمون في موضع، روى هذا المعنى عطاء عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وقتادة، والفراء.
والثاني: أن معنى ذات العماد: ذات الطول، روي عن ابن عباس أيضاً، وبه قال مقاتل، وأبو عبيدة، قال الزجاج يقال رجل مُعْمَدٌ: إذا كان طويلاً.
والثالث: ذات القوة والشدة، مأخوذ من قوة الأعمدة، قاله الضحاك.
والرابع: ذات البناء المحكم بالعماد، قاله ابن زيد. وقيل: إنما سميت ذات العماد لبناءٍ بناه بعضهم.
قوله تعالى: {التي لم يخلق مثلها في البلاد} وقرأ أبو المتوكل، وأبو الجوزاء، وأبو عمران: {لم تَخْلُق} بتاءٍ مفتوحة ورفع اللام {مثلَها} بنصب اللام. وقرأ معاذ القارئ، وعمرو بن دينار: {لم نَخْلُق} بنون مفتوحة ورفع اللام {مثلَها} بنصب اللام.
وفي المشار إليها قولان:
أحدهما: لم يَخْلُق مثل تلك القبيلة في الطول والقوّة، وهذا معنى قول الحسن.
والثاني: المدينة لم يخلق مثل مدينتهم ذات العماد، قاله عكرمة.
وقد جاء في التفسير صفات تلك المدينة. وهذه الإشارة إلى ذلك.
روى وهب بن منبه عن عبد الله بن قِلابة أنه خرج في طلب إبل له شردت، فبينما هو في صحارى عدن وقع على مدينة في تلك الفلوات عليها حصن، وحول الحصن قصور كثيرة. فلما دنا منها ظن أن فيها أحداً يسأله عن إبله، فلم ير خارجاً ولا داخلاً، فنزل عن دابته، وعقلها، وسلَّ سيفه، ودخل من باب الحصن، فلما دخل الحصن إذا هو ببابين عظيمين لم ير أعظم منهما، والبابان مُرصَّعان بالياقوت الأبيض و الأحمر، فلما رأى ذلك دهش، ففتح أحد البابين، فإذا هو بمدينة لم ير أحد مثلها، وإذا قصور، كلُّ قصر فوقه غرف وفوق الغرف غرف مبنيَّة بالذهب والفضة واللؤلؤ والياقوت، ومصاريع تلك الغرف مثل مصاريع المدينة، يقابل بعضها بعضاً، مفروشة كلها باللؤلؤ، وبنادق من مسك وزعفران.
فلما عاين ذلك، ولم ير أحداً، هَالَه ذلك، ثم نظر إلى الأزقة فإذا هو في كل زقاق منها شجر قد أثمر، وتحت الشجر أنهار مطردة يجري ماؤها من قنوات من فضة. فقال الرجل: إن هذه هي الجنة، فحمل معه من لؤلؤها، ومن بنادق المسك والزعفران ورجع إلى اليمن، فأظهر ما كان معه. وبلغ الأمر إلى معاوية، فأرسل إليه، فقص عليه ما رأى، فأرسل معاوية إلى كعب الأحبار، فلما أتاه قال له: يا أبا إسحاق: هل في الدنيا مدينة من ذهب وفضة؟ قال: نعم. أخبرك بها وبمن بناها؟ إنما بناها شداد بن عاد، والمدينة:
{إرم ذات العماد}، قال: فحدثني حديثها، فقال إن عاداً المنسوب إليهم عاد الأولى، كان له ولدان: شديد، وشداد. فلما مات عاد،ثم مات شديد وبقي شداد، ملك الأرض، ودانت له الملوك، وكان مولعاً بقراءة الكتب، فكان إذا مر بذكر الجنة دعته نفسه إلى بناء مثلها عُتُوَّاً على الله تعالى. فأمر بصنع {إرم ذات العماد} فأمَّر على عملها مائة قهرمان مع كل قهرمان ألف من الأعوان، وكتب إلى ملوك الأرض أن يمدُّوه بما في بلادهم من الجواهر، فخرج القهارمة يسيرون في الأرض ليجدوا أرضاً موافقة، فوقفوا على صحراء عظيمة نقية من التلال، وإذا فيها عيون ماء ومروج فقالوا: هذه صفة الأرض التي أمر الملك أن يبنى بها، فوضعوا أساسها من الجزع اليماني، وأقاموا في بنائها ثلاثمائة سنة، وكان عمر شداد تسعمائة سنة، فلما أتوه وقد فرغوا منها قال: انطلقوا، واجعلوا عليها حصناً، واجعلوا حول الحصن ألف قصر، عند كل قصر ألف عَلَم ليكون في كل قصر من تلك القصور وزير من وزرائي، ففعلوا ذلك، فأمر الملك الوزراء وهم ألف وزير أن يتهيئوا للنقلة إلى {إرم ذات العماد}، وكان الملك وأهله في جهازهم عشر سنين، ثم ساروا إليها، فلما كانوا منها على مسيرة يوم وليلة بعث الله عليه، وعلى من كان معه صيحة من السماء فأهلكتهم جميعاً، ولم يَبْقَ منهم أحد.
وروى الشعبي عن دَغْفَل الشيباني عن علماء حِمْيَر قالوا: لما هلك شداد ابن عاد ومن معه من الصيحة، ملَكَ بعده ابنه مَرْثَد بن شَدَّاد، وقد كان أبوه خلَّفه بحضرموت على ملكه وسلطانه، فأمر بحمل أبيه من تلك المفازة إلى حضرموت، وأمر بدفنه فَحُفِرَتْ له حفيرة في مفازة، فاستودعه فيها على سرير من ذهب، وألقى عليه سبعين حُلَّةً منسوجة بقضبان الذهب، ووضع عند رأسه لوحاً عظيماً من ذهب وكتب عليه:
اعتبر يا أيُّها المغـ *** ـرورُ بالعمرِ المديدِ
أنا شَدَّادُ بنُ عادٍ *** صاحبُ الحصن المشيدِ
وأخو القوَّة والبأْ *** ساءِ والملك الحشيدِ
دان أهل الأرض طُرَّاً *** ليَ من خوف وعيدي
وملكت الشرق والغر *** ب بسلطان شديدِ
وبفضل الملك والعـ *** ـدة فيه والعديدِ
فأتى هود وكنَّا *** في ضلال قبل هودِ
فدعانا لو قبلنا *** ه إلى الأمر الرشيدِ
فعصيناه ونادى *** ما لكم هل من محيدِ؟
فأتتنا صيحة ته *** وي من الأفق البعيدِ
فتوافينا كزرعٍ *** وسط بيداء حصيدِ
قوله تعالى: {وثمود الذين جابوا الصخر} قطعوه ونقبوه. قال إسحاق: والوادي: وادي القرى. وقرأ الحسن: {بالوادي} بإثبات الياء في الحالين {وفرعون ذي الأوتاد} مفسر في سورة [ص: 12] {الذين طَغَوْا في البلاد} يعني: عاداً، وثمود، وفرعون، عملوا بالمعاصي، وتجبَّروا على أنبياء الله {فأكثروا فيها الفساد} القتل والمعاصي {فصبَّ عليهم ربك سَوْطَ عذاب}.
قال ابن قتيبة: وإنما قال: سوط عذاب، لأن التعذيب قد يكون بالسوط. وقال الزجاج: أي جعل سوطَهم الذي ضربهم به العذابَ {إن ربك لبالمرصاد} أي: يرصد مَنْ كفر به بالعذاب، والمرصد: الطريق، وقد شرحناه في قوله تعالى {كانت مرصاداً} [النبأ: 21].


قوله تعالى: {فأما الإنسان} فيمن عنى به أربعة أقوال.
أحدها: عتبة بن ربيعة، وأبو حذيفة بن المغيرة، رواه عطاء عن ابن عباس.
والثاني: أُبَيّ بن خلف، قاله ابن السائب.
والثالث: أُمية بن خلف، قاله مقاتل.
والرابع: أنه الكافر الذي لا يؤمن بالبعث، قال الزجاج: وابتلاه بمعنى اختبره بالغنى واليسر {فأكرمه} بالمال {ونَعَّمه} بما وسَّع عليه من الإفضال {فيقول ربي أكرمني} فتح ياء {ربيَ} {أكرمنيَ} {ربيَ} {أهاننيَ} أهل الحجاز، وأبو عمرو، أي: فضلني بما أعطاني، ويظن أن ما أعطاه من الدنيا لكرامته عليه {وأما إذا ما ابتلاه} بالفقر {فقَدَر عليه رِزْقَه} وقرأ أبو جعفر، وابن عامر {فقدَّر} بتشديد الدال، والمعنى: ضيَّق عليه بأن جعله على مقدار البُلْغَة {فيقول ربي أهانني} أي: هذا الهوان منه لي حين أذلَّني بالفقر.
واعلم أن من لا يؤمن بالبعث، فالكرامة عنده زيادة الدنيا، والهوان قِلَّتُها.
قوله تعالى: {كلا} أي: ليس الأمر كما يظن. قال مقاتل: ما أعطيت من أغنيت هذا الغنى لكرامته عليَّ، ولا أفقرت مَنْ أفقرت لهوانه عليَّ، وقال الفراء: المعنى: لم يكن ينبغي له أن يكون هكذا، إنما ينبغي أن يحمد الله على الأمرين: الفقر، والغنى. ثم أخبر عن الكفار فقال تعالى: {بل لا تكرمون اليتيم} قرأ أهل البصرة {يُكرِمون} و{يَحُضُّون} و{يَأْكُلون} و{يُحِبُّون} بالياء فيهن، والباقون بالتاء. ومعنى الآية: إني أهنت من أهنت من أجل أنه لا يكرم اليتيم. والآية تحتمل معنيين.
أحدهما: أنهم كانوا لا يَبَرُّونه.
والثاني: لا يعطونه حَقَّه من الميراثِ، وكذلك كانت عادة الجاهلية لا يورِّثون النساء ولا الصبيان. ويدل على المعنى الأول قوله تعالى: {ولا تَحاضُّون على طعام المسكين} قرأ أبو جعفر، وأهل الكوفة {تحاضون} بألف مع فتح التاء. وروى الشيرزي عن الكسائي كذلك إلا أنه ضم التاء. والمعنى: لا يأمرون بإطعامه لأنهم لا يرجون ثواب الآخرة. ويدل على المعنى الثاني قوله تعالى: {وتأكلون التُّراثَ أكلاً لَمّا} قال ابن قتيبة: التراث: الميراث، والتاء فيه منقلبة عن واوٍ، كما قالوا: تُجاه، والأصل: وُجاه، وقالوا: تُخمَة، والأصل: وُخَمَة. و{لَمَّا} أي: شديداً، وهو من قولك: لممْتُ بالشيء: إذا جمعتَه، وقال الزجاج: هو ميراث اليتامى.
قوله تعالى: {وتحبون المال} أي: تحبون جمعه {حُبّاً جماً} أي: كثيراً فلا تنفقونه في خير {كلا} أي: ما هكذا ينبغي أن يكون الأمر. ثم أخبر عن تلهفهم على ما سلف منهم حين لا ينفعهم، فقال تعالى: {إذا دُكَّت الأرض دَكَّاً دَكَّاً} أي: مرَّة بعد مرَّة، فتكسَّر كل شيء عليها، {وجاء ربك} قد ذكرنا هذا المعنى في قوله تعالى: {هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله} [البقرة: 210].
قوله تعالى: {والملك صفاً صفاً} أي: تأتي ملائكة كل سماءٍ صفاً صفا على حدة.
قال الضحاك: يكونون سبعة صفوف، {وجيء يومئذٍ بجهنَّم} روى مسلم في أفراده من حديث ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يؤتى بجهنم يومئذٍ لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرَّونها» قال مقاتل: يجاء بها فتقام عن يسار العرش.
قوله تعالى: {يومئذ} أي: يوم يجاء بجهنم {يتذكر الإنسان} أي: يتَّعظ الكافر ويتوب. قال مقاتل: هو أمية بن خلف {وأنَّى له الذكرى} أي: كيف له بالتوبة وهي في القيامة لا تنفع {يقول يا ليتني قدَّمتُ} العمل الصالح في الدنيا {لحياتي} في الآخرة التي لا موت فيها {فيومئذ لا يعذَّب عذابه أحدٌ} قرأ الكسائي، ويعقوب، والمفضل {لا يعذَّب} بفتح الذال، والباقون بكسرها، فمن فتح، أراد: لا يعذب عذاب الكافر أحد، ومن كسر أراد: لا يعذَّب عذاب الله أحد، أي كعذابه، وهذه القراءة تختص بالدنيا، والأولى تختص بالآخرة.
قوله تعالى: {يا أيتها النفس المطمئنة} اختلفوا فيمن نزلت على خمسة أقوال.
أحدها: في حمزة بن عبد المطلب لما استشهد يوم أُحد، قاله أبو هريرة، وبريدة الأسلمي.
والثاني: في عثمان بن عفان حين أوقف بئر رومة، قاله الضحاك.
والثالث: في خبيب بن عدي لما صلبه أهل مكة، قاله مقاتل.
والرابع: في أبي بكر الصديق رضي الله عنه، حكاه الماوردي.
والخامس: في جميع المؤمنين، قاله عكرمة.
وفي معنى {المطمئنة} ثلاثة أقوال.
أحدها: المؤمنة، قاله ابن عباس. وقال الزجاج: المطمئنة بالإيمان.
والثاني: الراضية بقضاء الله، قاله مجاهد.
والثالث: الموقنة بما وعد الله، قاله قتادة.
واختلفوا في أي حين يقال لها ذلك على قولين.
أحدهما: عند خروجها من الدنيا، قاله الأكثرون.
والثاني: عند البعث يقال لها: ارجعي إلى صاحبك، وإلى جسدك، فيأمر الله الأرواح أن تعود إلى الأجساد، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال عطاء، وعكرمة والضحاك.
وفي قوله تعالى {ارجعي إلى ربك راضية} أربعة أقوال.
أحدها: ارجعي إلى صاحبك الذي كنتِ في جسده، وهذا المعنى في رواية العوفي عن ابن عباس، وبه قال عكرمة والضحاك.
والثاني: {ارجعي إلى ربك} بعد الموت في الدنيا، قاله أبو صالح.
والثالث: ارجعي إلى ثواب ربك، قاله الحسن.
والرابع: يا أيتها النفس المطمئنة إلى الدنيا ارجعي إلى الله تعالى بتركها، حكاه الماوردي.
قوله تعالى: {فادخلي في عبادي} أي: في جملة عبادي المصطَفَيْن. قال أبو صالح: يقال لها عند الموت: ارجعي إلى ربك، فإذا كان يوم القيامة قيل لها: {فادخلي في عبادي} وقال الفراء: ادخلي مع عبادي. وقرأ سعد بن أبي وقاص، وأُبَي بن كعب، وابن عباس، ومجاهد، والضحاك، وأبو العالية، وأبو عمران: {في عبدي} على التوحيد. قال الزجاج: فعلى هذه القراءة والله أعلم يكون المعنى: ارجعي إلي ربك، أي: إلى صاحبك الذي خرجتِ منه، فادخلي فيه.